وفى مقال جميل لعزمى بشارة فى جريدة الشروق توضيح بسيط لما جرى وسيجرى وقد يلتبس على البعض لكثرة الضوضاء
حدود التدهور
لم تتضح بعد حدود مسار التدهور القائم بشأن فلسطين. فالنظام الرسمى العربى الذى أكد منذ العام 1974 مقولة «الممثل الشرعى والوحيد للشعب الفلسطينى» لكى يحرر نفسه باسم الأمة من مهمة محاربة إسرائيل، بدأ مسيرة الفصل هذه بأن المقاومة شأن الفلسطينيين الذى يجب دعمه عربيا. وهو خلاف لما يعتقد أنه نقاش عربى قديم.
فبعد قرار التقسيم عام 1947 أثار أمثال النقراشى باشا نقاشا عنيفا فى مصر بتصريحه بعدم التدخل وضرورة تجنيب الدولة الصراع مع إسرائيل، فى حين أن غالبية الشعب المصرى وأحزابه وقواه السياسية بما فيها الليبرالية، رأى فى قضية فلسطين قضيته، وقضية العرب أجمعين.
وقد استمر هذا النقاش على الجبهات جميع وفى المفاصل التاريخية جميعها. ولكن ذلك الرأى الانعزالى شكل أقلية فى جميع الدول العربية.
ما لبثت هذه الدول التى وافقت بسرور على مقولة «الممثل الشرعى والوحيد للشعب الفلسطينى» وعلى ضرورة دعمه كيانا سياسيا على الساحة الدولية وكقوة مقاومة محليا، ما لبثت أن انخرطت فى عملية سلام وتسوية مع إسرائيل لاسترداد أراضيها التى احتلت فى حرب حزيران.
ولكن «أراضيها» كدول قطرية لم تكن محتلة من العام 1948 وحتى 1967، وهى لم تحارب إسرائيل طيلة تلك الفترة من أجل هذه الأراضى. فقط فى هذا العام الأخير احتلت تلك الأراضى. والسلام مع إسرائيل بثمن استرجاعها دون استعادة فلسطين وتفكيك العنصرية الصهيونية هو ترجمة وتطبيق لانتصار إسرائيل فى حرب 1967.
فقد كانت العقيدة الرسمية السائدة فى المؤسسة الحاكمة الإسرائيلية (دعك من قطعان المستوطنين الهستيريين!) هى احتلال الأرض لمبادلتها بالاعتراف والسلام على أساس قبول إسرائيل فى المنطقة.
ولذلك فإن استرجاع الأرض التى احتلت عام 67 مقابل السلام هو انتصار لإسرائيل واعتراف بالهزيمة. وهو أكثر من ذلك مأسسة لتلك الهزيمة. لقد تمت مأسسة وأدلجة الهزيمة بالادعاء أن الدول أنجزت استعادة أرضها المحتلة عام 67، وأن ما تبقى هو قضية الفلسطينيين... ولابد أن يرافق هذا التنصل تنصلا من الجامع الذى يفرض المعركة وهو الانتماء للوطن العربى المهدد وإلى أمة واحدة.
لابد أن يرافقها التأكيد على الدولة القطرية و«س أولا»، أو «ص أولا»... وهى تعبيرات عن انتصار إسرائيلى آخر أعمق. فقد ادعت الأخيرة دائما أنه لا توجد أمة عربية بل أمم وشعوب وقبائل، وأن الأمة الوحيدة فى هذا الصراع هى الأمة اليهودية. صدق أو لا تصدق!
ثم تبين أن المقاومة تشكل عقبة أمام «عملية السلام» أو أمام العلاقات المنفردة مع إسرائيل، أو تؤدى إلى توريط فى نزاعات لا تنتهى معها. فتحوّلت هذه الدول إلى منع المقاومة أو حتى محاربة المقاومة. لقد وصل هذا النوع من التفكير إلى: «لا نريد أن نحارب، ولا نريدكم أن تقاوموا». فمُنِعت المقاومة بداية من الانطلاق من الدول العربية المحيطة بإسرائيل الواحدة تلو الأخرى.
وتبين فى الحرب الأخيرة على غزة أن هذا التفكير يقود إلى منع المقاومة داخل الأراضى العربية المحتلة عام 1967 نفسها. ولا يكتفى بمنعها من الدول المحيطة بإسرائيل، والتى كانت تسمى دول المواجهة. فقد قام بعد اتفاقيات أوسلو محور عربى ــ فلسطينى (تعزز بعد اغتيال عرفات) يحاول أن يمنع مقاومة الاحتلال الإسرائيلى من خارج ومن داخل المناطق المحتلة عام 1967، لأن الإستراتيجية الوحيدة المسموح بها حتى على الساحة الفلسطينية هى إستراتيجية المفاوضات. أما «حق الشعوب فى مقاومة الاحتلال» فهى مقولة نظرية مهما كانت صحيحة.
وتروَّج منذ مدة تفسيرات مقلوبة لمفهوم «الحق» الذى تناضل الشعوب من أجله فى نفس هذه الأوساط. فحق العودة، برأيهم حق، ولكن ليس ضروريا أن يمارس، بل وذهبوا إلى حد المطالبة بالاعتراف بالحق نظريا دون السماح بممارسته. فكيف يكون الحق بالعودة دون السماح بالعودة. والكاريكاتير أكثر تشويها فى حالة حق الشعوب فى مقاومة الاحتلال. إذ يُعتَرفُ به نظريا، أما عمليا فمن حق من يرى أن ممارسته تسبب ضررا أن يحارب من يمارسه. وكل هذا تحت الاحتلال. والحقيقة أنه برأينا آن أوان تغيير هذه المقولات.
لابد من القول أنه: «من واجب الشعوب مقاومة ودعم مقاومة الاحتلال». وعندما يعترف بهذا الواجب يسمح بالنقاش حول تنظيمه وكيفية ممارسته بحيث لا يصبح فوضى تضر بالهدف، ولكن لا يجوز مناقشة حق المقاومة وأساليبها من منطلق رفضها. فمن يرفض المقاومة مبدئيا لا يفترض أن يهمه نوعها، ولا كيفية إدارتها.. اللهم إلا لغرض السجال.
الدول العربية التى دعمت حربا على إيران طيلة ثمانى سنوات وسقط فيها مئات الآلاف أعلنت أنها لا تريد محاربة إسرائيل. ولم تعاود طرح هذا السؤال: لماذا لا تريد الدول العربية محاربة إسرائيل؟ هل فعلا إسرائيل دولة لا تُحارَب؟ هنالك امتناع عن مناقشة هذا الموقف وكأنه مسلّمة. وهو ليس بمسلّمة.
لم تكترث نفس الأنظمة لمقتل مئات الآلاف فى حرب ضارية مع إيران استمرت ثمانية أعوام (وهى الحرب الكبيرة الحقيقية الوحيدة التى خاضها العرب فى القرن العشرين، وتليها حرب أكتوبر بالحجم والشدة).
ولم تتّهِم هذه الدول المبادر إلى هذه الحرب بالتسبب بكارثة وبالتوريط والتدمير. ولكنها تعتبر سقوط المئات شهداء نتيجة لعدوان إسرائيلى «إبادةَ شعب»، وتنشر الرعب والخوف من إسرائيل وتتهم المقاومة بالمسئولية عن الدمار. لا يريدون أن يحاربوا ولا يريدون دعم المقاومة، والنتيجة: لا يمكن حتى تحقيق تقدم فى التفاوض مع إسرائيل. هكذا سدت هذه الأنظمة فى وجه شعوبها الخيارات التاريخية الثلاثة: الحرب والمقاومة والمفاوضات... ولذلك تعيش المنطقة العربية مخاضا حول السؤال ماذا بعد؟
أثبتت هذه السياسات أنها غير قادرة على تحقيق إنجازات فى المفاوضات. لقد وصل هذا التفكير إلى مفترق طرق: لا حرب، ولا مقاومة، ولا إنجازات فى المفاوضات باتجاه حل عادل. هنا تصبح عملية السلام هدفا قائما بذاته... لأنه لا عودة منها إلى الحرب ولا تقدم منها إلى حلول عادلة.
وفى هذه الأثناء تراهن بعض الدول العربية على عملية السلام كآلية اتصالٍ وتواصلٍ مع الولايات المتحدة، وكآليةٍ لتحسين الوضع الاستراتيجى لهذا النظام أو ذاك فى منظومة الاهتمامات الأمريكية خاصة فيما يتعلق بأوضاعه الداخلية، إضافة للعلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة. ولكن سرعان ما يتبين مدى صغر هذا المشروع. فكما تحوّلت «عملية السلام» إلى دائرة علاقات عامة لدى الولايات المتحدة، كذلك تحوَّلت بالنسبة لدول عربية فى علاقاتها بالولايات المتحدة.
فمثلا خاصمت السياسة الرسمية المصرية رأيها العام ودولا كثيرة، عربية وغير عربية، مؤخرا لكى تمسك بـ«ملف غزة» بما يضمن تصوير أهميتها الإستراتيجية للغرب. فتمنع تعزيزَ قوة المقاومة فى غزة، وتضغط على حماس لقبول شروط الرباعية. كما أصرت ألا يتدخل أحد من الدول العربية فى الحوار الفلسطينى الفلسطينى لتحقيق الوحدة. وقد أُبلغَت مصر مثلا أن أمريكا تصر على شروط الرباعية بشأن الحوار الفلسطينى الفلسطينى، وأنه لن تكون لديها أفكار ومبادرات فى الشأن الفلسطينى فى الأشهر الستة الأولى، ولذلك ما عليهم إلا مد وتمديد الحوار الفلسطينى الفلسطينى فى ظروف استمرار الحصار ومنع إعادة البناء بعد كل هذا الدمار فى غزة.
سوف تشغل الولايات المتحدة العرب بمفاوضات جديدة. وربما يستعاد فيها ما طرح من قِبَل أولمرت ولفنى والحكومة الإسرائيلية السابقة كأنه حل الدولتين (اقصد دون حق العودة ودون الانسحاب الكامل لحدود الرابع من حزيران ودون القدس الشرقية عاصمة لفلسطين). وستبدو المحاولة الأمريكية إنجازا يحتاج إلى ضغط على حكومة نتنياهو لكى يتحقق. وهذه كما يعلم القارئ عملية لا تنتهى.
ملاحظة راهنة: فى هذه الأثناء أخذ الشعب الفلسطينى رهينة الحوار الداخلى وشروط الرباعية والمفاوضات. وبعد العدوان تم ربط إعادة الإعمار فى القطاع مع نجاح الحوار. وتم ربط نجاح الحوار بقبول حماس لشروط الرباعية.
طبعا لن نثير هنا السؤال لماذا سارت حماس نحو هذا الفخ بعد الحرب؟ ولماذا أصبح يمشى كالديك كل من كان أثناء العدوان خجلا مطأطأ الرأس؟ ليس هذا هو المكان لطرح هذه التساؤلات. فقد كان الضغط بعد العدوان شديدا ناهيك بسحر استجداء الوحدة من قبل من كان يرفض حتى محاورة حماس دون شروط. وقد ضاعت بوصلة المقاومة لفترة. إن أخطر ما يمكن أن يجرى للمقاومة هو دخولها فى مسار الاعتراف بها دوليا وعربيا، ودفع ثمن هذا الاعتراف. لدى المواطن الفلسطينى شعور أنه حضر هذا الفيلم.
ولا بأس. ما جرى جرى. ولكن المقاومة سايرت، ودفعت ثمنا، واستفاد المحرجون أثناء العدوان من هذه المسايرة بعده. ولكن المهمة انتهت. اتضحت شروط نجاح الحوار ورفع الحصار التى يتمسك بها المحور الرافض للمقاومة... إنها نفس شروط الرباعية.
وسوف يستمر الحوار لفترة طويلة والحصار مفروض ومستمر ومنع إعادة البناء أيضا. وقد آن الأوان أن يُقَال ما يُفْهَم: إن شرط الاستمرار بالحوار هو السماح بإعادة الإعمار. ولا يمكن أن يقبل الاستمرار بالربط المعاكس. فمقولة إن النجاح بالحوار وقبول شروط الرباعية هو شرط رفع الحصار وإعادة الإعمار هى مقولة تنفيذ النصر لإسرائيل من العدوان.
ويجب بأسرع وقت ممكن أن يقال العكس: رفع الحصار والسماح بإعادة الإعمار هو شرط الاستمرار بهذه العملية التى لا تنتهى. فلماذا يجب أن يأخذ هذا الشعب رهينة العدوان ورهينة شروط الرباعية بعد صموده فى الحرب؟ هكذا تُقلَب الطاولة، وليس بتبريرات مثل شرعية الرئيس وغيرها من التبريرات، بل لسبب مصيرى متعلق بمصلحة الشعب الفلسطينى ومصلحة المقاومة.
No comments:
Post a Comment